من قلب قرية مداغ الهادئة في إقليم بركان، شرق المملكة المغربية، تشع أنوار الزاوية القادرية البودشيشية، إحدى أبرز المعالم الروحية في العالم الإسلامي، وصرحًا شامخًا للتصوف السني المعتدل. هذه الزاوية التي ارتبط اسمها بالطريقة القادرية، المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني في القرن الخامس الهجري، عرفت شهرتها الواسعة باسم "البودشيشية" نسبةً إلى الشيخ علي بن محمد، المعروف بـ "سيدي علي بودشيش". وقد اكتسب هذا اللقب في أوقات المجاعة حين كان يطعم الناس "الدشيشة" في زاويته، لتظل هذه المكرمة الإنسانية راسخة في وجدان المريدين عبر الأجيال.
على امتداد تاريخها، مرت الزاوية القادرية البودشيشية بمحطات فارقة، برز خلالها عدد من الشيوخ المؤثرين في مسارها، مثل الشيخ سيدي أحمد بن عليوة، والشيخ سيدي المختار بن محيي الدين الذي توفي سنة ألف وتسعمائة وأربع عشرة، ثم الشيخ سيدي أبو مدين بن المنور الذي وافته المنية سنة ألف وتسعمائة وخمس وخمسين. وقد كان لأبي مدين دور محوري في الانتقال بالطريقة من الطابع التبركي البسيط إلى التربية الروحية العميقة، بعد سنوات من المجاهدة والإذن التربوي الخاص.
قبل وفاته، أوصى الشيخ أبو مدين بخلافته لسيدي الحاج العباس، الذي أبدى تواضعًا كبيرًا وفضل كتمان الأمر، قبل أن يتحمل مسؤولية المشيخة في وقت لاحق. وقد أعد الحاج العباس نجله، سيدي حمزة، للقيام بمهام التربية والإرشاد، إلا أن الأخير ظل ملازمًا لوالده حتى وفاته سنة ألف وتسعمائة واثنتين وسبعين، حين تولى رسميًا مشيخة الزاوية، وفق وصية موثقة وموقعة من كبار أعيانها.
في عهد الشيخ حمزة، انطلقت الزاوية نحو آفاق أوسع، حيث توسعت فروعها داخل المغرب وخارجه، وامتد إشعاعها إلى أوروبا وأفريقيا والأمريكيتين. وتميز الشيخ حمزة بقدرته على المزج بين التربية الروحية التقليدية والانفتاح على العالم المعاصر، مما أكسبه احترام المريدين والزوار على اختلاف ثقافاتهم. وبعد وفاته، انتقلت المشيخة إلى نجله، الشيخ جمال الدين القادري البودشيشي، المعروف بـ "سيدي جمال"، الذي واصل المسيرة بثبات وحكمة.
وفي الثامن من غشت سنة ألفين وخمس وعشرين، غيّب الموت الشيخ جمال الدين عن عمر ناهز ثلاثًا وثمانين عامًا، لتطوي الزاوية صفحة من تاريخها الحديث، وتبدأ مرحلة جديدة مع انتقال القيادة إلى الشيخ الدكتور منير القادري بودشيش، الذي يجمع بين الإرث الروحي العريق والتكوين الأكاديمي المتين.
لا تمثل الزاوية القادرية البودشيشية مجرد مؤسسة دينية، بل هي مدرسة متكاملة للتربية الروحية، تقوم على الذكر وتلاوة القرآن الكريم والسماع الصوفي وتزكية النفس، إلى جانب تنظيم الملتقيات الفكرية. ومن أبرز فعالياتها السنوية الملتقى العالمي للتصوف، الذي يقام في مداغ بمناسبة المولد النبوي الشريف، ويستقطب علماء ومفكرين من مختلف أنحاء العالم، لترسيخ قيم الوسطية والاعتدال ومواجهة الفكر المتطرف.
وتحظى الزاوية برعاية مولوية سامية من أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي يولي اهتمامًا خاصًا لحماية الدين وتعزيز القيم الروحية في المملكة. تحت هذه الرعاية، تواصل الزاوية رسالتها في صون التقاليد المغربية الموروثة، وترسيخ الوحدة الوطنية، وتعزيز مكانة المغرب كأرض للتسامح والانفتاح.
كما تلعب الزاوية دورًا فاعلًا في ما يعرف بـ الدبلوماسية الروحية، من خلال حضور قوي في دول أفريقية وأوروبية، والمساهمة في بناء الجسور الثقافية والدينية بين الشعوب. ويعتبرها العديد من المراقبين رافدًا مهمًا في تعزيز الأمن الروحي للمغرب، ونشر صورة الإسلام السمح المعتدل.
ورغم هذه المكانة، لم تخل مسيرة الزاوية من ملاحظات وانتقادات، إذ يعتبر بعض المعارضين بعض ممارساتها، مثل الاحتفال بالمولد النبوي أو التبرك بالشيخ، بدعًا دينية، فيما يراها المريدون تجسيدًا للمحبة النبوية ووسيلة للتقرب إلى الله.
الزاوية أيضًا تحمل بصمة معمارية مميزة تعكس التراث المغربي الأصيل، حيث تضم قبة ضريح الشيخ حمزة البودشيشي المزينة بالزليج التقليدي والنقوش الخشبية، إضافة إلى فضاءات مخصصة للرجال والنساء لإقامة حلقات الذكر والدعاء.
اليوم، ومع تولي الشيخ الدكتور منير القادري بودشيش مشيخة الزاوية، تبدو المؤسسة الروحية العريقة مقبلة على مرحلة جديدة، ترتكز على الجمع بين الأصالة والتجديد، والحفاظ على رسالتها في نشر المحبة والسلام داخل المغرب وخارجه.
وهكذا، يظل المغرب، في ظل القيادة الرشيدة لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، منارة للتصوف السني المعتدل، وموطنًا للقيم المغربية الأصيلة التي تضرب جذورها في أعماق التاريخ، وترتفع في سماء المجد. وتبقى الزاوية القادرية البودشيشية اليوم، بقيادة شيخها الجديد، سفيرة المغرب الروحية إلى العالم، ورسول محبة وسلام، ووجهًا مشرقًا لبلد يعتز بثوابته ويفتخر بهويته ويصون أمنه الروحي.