أطلقت الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية حملة غير مسبوقة لمراقبة الدراجات النارية بالمغرب، استهدفت ضبط المخالفات المرتبطة بالسرعة وتعديلات المحركات. الحملة، التي أعلنت في بداية شهر غشت الجاري، وُصفت من طرف الوكالة بأنها خطوة لحماية الأرواح وتقليص حوادث السير، غير أنّها سرعان ما تحولت إلى محور جدل واسع على الصعيدين الشعبي والسياسي، ما دفع الحكومة إلى التدخل وتعليق القرار بعد أيام قليلة فقط.
تفاصيل الحملة الأمنية
الحملة اعتمدت لأول مرة أجهزة متطورة لقياس السرعة القصوى، حيث تقرر أن أي دراجة تتجاوز 58 كيلومتراً في الساعة تُعتبر معدّلة بشكل غير قانوني، ما يستوجب حجزها وإحالة ملفها على النيابة العامة. كما فرضت الوكالة مسطرة صارمة لاسترجاع الدراجات، تشمل إصلاح الوضعية وإعادة المصادقة عليها.
هذه الإجراءات برّرتها السلطات بالرغبة في تقليص نسب الحوادث المميتة، إذ تشير أرقام رسمية إلى أن سنة 2024 سجلت 1738 وفاة في صفوف مستعملي الدراجات، أي ما يعادل 43% من مجموع قتلى حوادث السير. نسبة صادمة وضعت الدراجات النارية في صدارة مسببات المآسي الطرقية.
قرار حكومي مثير
لكن سرعان ما انفجرت موجة غضب في الشارع وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر السائقون أن القرار "قاسٍ" ويهدد مصدر رزق آلاف الشباب العاملين في خدمات التوصيل والتنقل. البعض دعا إلى حملة رمزية تحت شعار "خلي الدراجة فدارك"، للتأكيد على وزنها الاقتصادي في استهلاك المحروقات والتأمينات والضرائب.
أمام هذا الضغط الشعبي، تدخل رئيس الحكومة عزيز أخنوش يوم الخميس 21 غشت، وأجرى اتصالاً بوزير النقل واللوجيستيك عبد الصمد قيوح. وأسفر ذلك عن تعليق الحملة ومنح مهلة انتقالية لمدة سنة كاملة، أي إلى غشت 2026، حتى يتمكن السائقون من التكيّف مع المعايير الجديدة. في المقابل، شددت الحكومة على تكثيف حملات التوعية وإشراك المهنيين والمجتمع المدني قبل تطبيق أي إجراء نهائي.
موقف المستوردين والمهنيين
من جهتهم، سارع المستوردون إلى الدفاع عن أنفسهم. الجمعية الوطنية لمستوردي وموزعي الدراجات النارية نفت أن يكون المهنيون مسؤولين عن إدخال محركات معدلة إلى السوق. رئيسها، خليل أندلس الورطاسي، أكد أن "المشكلة ليست في الاستيراد، بل في التعديلات التي يجريها بعض السائقين بعد الشراء".
وطالب المستوردون بمراجعة سقف السرعة القانونية، مقترحين رفعها إلى 70 كيلومتراً في الساعة، معتبرين أن حد 58 كيلومتراً "غير واقعي" مقارنة بتضاريس المدن المغربية. وأوضحوا أن الصين، وهي المزود الأول للمغرب، تسمح بدراجات تصل سرعتها إلى 100 كيلومتر في الساعة، وهو ما يجعل المعايير المغربية أكثر صرامة حتى من بعض الدول الإفريقية. واعتبروا أن استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى ركود القطاع وتراجع المبيعات بنسبة قد تصل إلى 70%.
جدل داخل البرلمان
داخل المؤسسة التشريعية، عبّر نواب عن رفضهم لتصنيف أي دراجة تتجاوز 58 كيلومتراً كـ"معدّلة". النائبة فاطمة التامني من فيدرالية اليسار الديمقراطي حذّرت من أن هذه الإجراءات تضرب فئة واسعة من الشباب الذين يعتمدون على الدراجات كمورد رزق يومي. كما شددت على أن غياب التشاور مع المهنيين زاد من حدة التوتر.
من جانبه، اعتبر مصطفى الحاجي، رئيس الهيئة المغربية لجمعيات السلامة الطرقية، أن الحملة في جوهرها إيجابية، لكن الخلل يكمن في غياب مراقبة تقنية دقيقة عند الاستيراد. وأوضح أن بعض الدراجات تُباع للمستهلكين وهي غير مطابقة للمعايير، دون علمهم بذلك.
الشارع يعبر عن غضبه
في استطلاع ميداني، أكد عدد من السائقين أن القرار "غير عادل". أحد الشبان العاملين في التوصيل صرح: "كيف ألتزم بسرعة 50 كيلومتراً وسط طرق مزدحمة ومتنوعة؟ الدراجة مصدر رزقي الوحيد". فيما اعتبر آخر أن "المشكل ليس في السرعة فقط، بل في غياب تكوين إجباري للسائقين".
على مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت هاشتاغات تطالب بـ"حلول واقعية"، معتبرة أن العقوبات وحدها لن تُنهي الفوضى، وأن البديل يكمن في التكوين، الدعم المالي، وتشديد الرقابة على الاستيراد.
بين الأمن والبعد الاجتماعي
يبقى التحدي الأكبر أمام السلطات هو كيفية الموازنة بين الجانب الأمني والاجتماعي. فمن الناحية الأمنية، حوادث الدراجات تشكّل أكثر من 40% من قتلى الطرق، ما يجعل التدخل أمراً ملحاً. لكن من الناحية الاجتماعية، تُعتبر الدراجة وسيلة أساسية للتنقل والعمل لآلاف الأسر، في ظل ارتفاع كلفة المعيشة وأسعار الوقود. أما اقتصادياً، فإن القطاع يوفّر آلاف فرص العمل، وأي ركود محتمل قد يؤثر على سوق الشغل والمالية العمومية.
قضية مراقبة الدراجات النارية بالمغرب لا تزال مفتوحة للنقاش، بين من يرى فيها أداة لإنقاذ الأرواح، ومن يعتبرها عبئاً اجتماعياً واقتصادياً جديداً. قرار التعليق منح مهلة سنة كاملة، لكن التحدي الحقيقي يكمن في صياغة مقاربة متوازنة تضمن السلامة الطرقية دون الإضرار بحقوق
المواطنين ومصالحهم الاقتصادية.