الصحراء الشرقية المغربية: حق تاريخي لا يزول عبر الزمن

مساء الحقائق التي لا تقبل الجدل، مساء التاريخ الذي لا يرحم التزوير، مساء الأرض التي لا يسقط حقها بالتقادم. هكذا تبدأ قصة الصحراء الشرقية المغربية، ذلك الجزء الشاسع من التراب الوطني الذي قُطعت منه مساحة تقدر بمليون ونصف المليون كيلومتر مربع، في زمن كان المغرب فيه ضعيفاً، لكنه لم يُمحَ أبداً من ذاكرة المغاربة، ولامن  ضمير التاريخ الذي سُجلت فيه هذه الأرض دوماً باسم المغرب.



الوثائق التاريخية التي تملأ الأرشيفات الرسمية، بما فيها خرائط ومعاهدات ومراسيم سلطانية، تدعم هذا الحق بكل قوة، إضافة إلى العملة المغربية التي كانت تنبض في أسواق هذه المنطقة، وشهادات موثقة في الأرشيف الفرنسي ذاته، كل هذا يشهد بصوت واحد: هذه الأرض مغربية وستظل مغربية مهما طال الزمان.


تاريخ جغرافي وسياسي معقد

تمتد الصحراء الشرقية المغربية على مساحة توازي تقريباً ضعف مساحة المغرب الحالية، وتشمل مناطق توات، تيديكلت، قورارة، بشار، تندوف، كرزاز، أدرار، وعين صالح. هذه المناطق لم تكن يوماً إلا جزءاً لا يتجزأ من المملكة المغربية، واستمر ارتباطها بها عبر قرون من الزمن.


لكن في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً مع امتداد نفوذ الاستعمار الفرنسي، بدأت هذه الأراضي تُقتطع من المغرب وتُلحَق بما كان يسمى الجزائر الفرنسية آنذاك. لقد تم ذلك عبر عدة مراحل، موثقة بآلاف الوثائق، التي تؤكد أن المغرب كان يمارس سيادته على هذه الأراضي عبر مراسلات السلاطين مع ممثليهم، وفرض النظام القضائي، وجمع الضرائب، وحتى عبر المعاملات المالية باستخدام العملة المغربية.


معاهدة لالة مغنية: نقطة التحول

كان عام 1845 نقطة حاسمة في تاريخ الصحراء الشرقية، عندما وقعت معاهدة لالة مغنية عقب هزيمة الجيش المغربي في معركة وادي إسلي قرب وجدة، إثر دعم المغرب للأمير عبد القادر الجزائري في مقاومته للاحتلال الفرنسي. هذه المعاهدة رسمت حدوداً من السعيدية إلى فكيك، لكنها تركت الجنوب المغربي دون تحديد واضح، بدعوى أنه مناطق خالية أو مناطق ترحال لقبائل بدوية. استغلت فرنسا هذه الثغرة لتوسع حدود الجزائر الفرنسية جنوباً، ضاربة عرض الحائط بسيادة المغرب.


واستمرت فرنسا بين 1881 و1907 في تمديد نفوذها، واقتطاع أراضٍ إضافية من الصحراء الشرقية، حتى وصلت إلى كرزاز وبشار والعبادلة وبني عباس، ومن ثم مدّت حدود الجزائر الفرنسية حتى المحيط الأطلسي، ما أدى إلى تضاعف مساحة الجزائر الفرنسية بشكل كبير على حساب الأراضي المغربية.


الاتفاقيات الدولية وتبعاتها

تكرّست هذه الوضعية من خلال اتفاقيات أخرى أُبرمت بين 1901 و1902، سمحت للمغاربة باستغلال أراضيهم عبر الحدود الجديدة والتنقل بحرية، وهو اعتراف ضمني بأن تلك الأراضي اقتطعت قسراً من السيادة المغربية.


في القرن العشرين، وتحديداً عام 1972، وقع المغرب والجزائر اتفاقية لترسيم الحدود تضمنت بنوداً حول الاستغلال المشترك لمنجم الحديد في غار جبيلات قرب بشار. هذا الاتفاق يُعتبر اعترافاً بمغربية الأرض، إذ من غير المعتاد أن تشارك دولة مواردها المعدنية مع دولة أخرى إلا إذا كانت الأرض محل نزاع أو ذات سيادة للطرف الآخر. لكن خرق الجزائر لبنود الاتفاق، خصوصاً في استغلال المنجم، يفتح الباب قانونياً لمراجعة الاتفاقية والعودة إلى الحدود السابقة.


القانون الدولي والحق المغربي

وفق خبراء القانون الدولي، فإن خرق أي بند من بنود الاتفاقيات الثنائية يتيح للطرف الآخر المطالبة بإلغائها أو تعديلها. وهذا يجعل ملف الصحراء الشرقية قابلاً لإعادة الطرح أمام المنتديات الدولية، خصوصاً أن المعاهدات التاريخية التي كرست الواقع الاستعماري وُقعت في ظروف اختلال ميزان القوى وتحت ضغط استعماري واضح.


وبهذا الصدد، ليست القضية مجرد نزاع حدودي أو تاريخي، بل تمس السيادة والاستراتيجية الوطنية للمغرب. فالصحراء الشرقية ليست مجرد مساحة جغرافية شاسعة، بل هي أيضاً غنية بالموارد الطبيعية، وتمثل عمقاً أمنياً وجغرافياً للمملكة، وركناً من أركان هويتها التاريخية.


استراتيجيات استرجاع الصحراء الشرقية

يرى العديد من المحللين أن استرجاع هذه الأراضي، رغم كونه هدفاً بعيد المدى، يبقى ممكناً في ظل تجارب عالمية ناجحة، مثل إعادة توحيد ألمانيا أو إعادة رسم خرائط أوروبا في تسعينيات القرن العشرين. وبالرغم من أن استرجاع الصحراء الشرقية ليس خياراً عسكرياً أو فوريّاً، إلا أن الدبلوماسية المغربية مطالبة بالعمل على ثلاث مستويات متوازية:


تكثيف الجهود القانونية لتوثيق الحق المغربي في المحافل الدولية.


تعزيز الوعي الشعبي والرسمي بالقضية، ليظل الحق حياً في الضمير الوطني.


استثمار اللحظات التاريخية المناسبة لإعادة طرح الملف بقوة على الطاولة الدولية.


الواقع الحالي والتحديات

على الأرض، لا تزال الحدود بين المغرب والجزائر مغلقة منذ عام 1994، بعد أزمة دبلوماسية وأمنية، مع غياب مؤشرات إيجابية على إعادة فتحها، في ظل توتر مستمر بسبب ملفات إقليمية معقدة، أهمها النزاع حول الصحراء الغربية والملف الحسّاس للصحراء الشرقية.


ومع كل هذه التعقيدات، تبقى الحقائق التاريخية والقانونية التي تثبت سيادة المغرب على الصحراء الشرقية راسخة وحاضرة، تنتظر اللحظة المناسبة لتتحول من أوراق وأرشيف إلى واقع ملموس. ويبقى الشعب المغربي وذاكرته الوطنية محافظين على هذا الحق، تماماً كما استعاد المغرب أقاليمه الجنوبية عبر صبر دبلوماسي طويل وجهود وطنية متواصلة.


ملف الصحراء الشرقية المغربية ليس مجرد قضية تاريخية جغرافية، بل هو جرح مفتوح في العلاقات المغربية الجزائرية، وتحدٍ وطني يتطلب حشد الطاقات القانونية والسياسية والإعلامية. في ضوء الحقائق الموثقة والوثائق التي لا يمكن إنكارها، يبقى الأمل قائماً في استعادة هذا الجزء الغالي من الوطن، الذي حمل تاريخاً عريقاً وموروثاً حضارياً يمتد لقرون، وسيبقى جزءاً لا يتجزأ من المغرب مهما طال الزمن.



تعليقات