الخلفية التاريخية: من النفي إلى الاستقلال
في 20 غشت 1953، أقدمت سلطات الحماية الفرنسية على نفي جلالة المغفور له الملك محمد الخامس، رفقة الأسرة الملكية، في محاولة يائسة لإخماد جذوة الحركة الوطنية. لكنّ هذه الخطوة سرعان ما تحوّلت إلى لحظة فارقة في مسار التحرر، إذ اندلعت موجات المقاومة الشعبية في مختلف المدن والقرى، وارتفعت التضحيات بالروح والدم دفاعاً عن الشرعية والوطن. وبعد سنتين ونيف من النضال المتواصل، عاد الملك الشرعي إلى عرشه يوم 16 نونبر 1955، ليعلن بداية مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الحديثة.
غير أن بذور هذه الملحمة لم تُزرع يوم النفي فقط، بل قبل ذلك بسنوات، من خلال وثيقة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944، وزيارة الملك محمد الخامس لمدينة طنجة يوم 9 أبريل 1947، التي شكّلت منعطفاً في طرح القضية المغربية على الساحة الدولية. وعلى امتداد العقود التالية، تواصل النضال الوطني في معارك مفصلية مثل أنوال وبوغافر والهري، وصولاً إلى المسيرة الخضراء سنة 1975، التي أرست مبدأ الوحدة الترابية كخيار استراتيجي ثابت.
خطاب العرش: تقييم الحاضر واستشراف المستقبل
الذكرى الـ72 لا تقتصر على الاحتفاء بالماضي، بل تُعد أيضاً لحظة تقييم صريح لمكاسب الحاضر. ففي خطاب العرش بتاريخ 29 يوليوز 2025، أكد جلالة الملك محمد السادس أن المغرب حقق تقدماً ملحوظاً في بناء اقتصاد صاعد ومجتمع متماسك، لكنه شدد على ضرورة سد الفجوات الاجتماعية والمجالية، وإطلاق جيل جديد من المشاريع التنموية المندمجة. كما دعا الحكومة إلى ضبط الإطار التنظيمي للانتخابات التشريعية المقبلة قبل نهاية السنة الجارية.
الخطاب الملكي تطرق أيضاً إلى الأوضاع الإقليمية، حيث جدد جلالته التأكيد على سياسة اليد الممدودة تجاه الجزائر، انطلاقاً من إيمان المغرب بوحدة المصير المغاربي. كما جدد التأكيد على مكانة مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد واقعي وذي مصداقية لملف الصحراء المغربية، مشيراً إلى الاعترافات الدولية المتزايدة، وعلى رأسها دعم المملكة المتحدة والبرتغال.
السياسات العمومية: رهان الاستثمار والتحول الرقمي
تندرج السياسات العمومية الحالية ضمن مسارين استراتيجيين متكاملين:
ميثاق الاستثمار الجديد (القانون الإطار 03-22): يهدف إلى تحسين مناخ الأعمال، توجيه الاستثمارات نحو القطاعات المنتجة لفرص الشغل، وتعزيز جاذبية المملكة إقليمياً ودولياً.
التحول الرقمي في أفق 2030: يقوم على رقمنة المرافق العمومية، تعميم الهوية الرقمية، وتطوير الكفاءات الوطنية في المجال الرقمي. هذه الرؤية تراهن على جعل الرقمنة رافعةً لتحقيق العدالة المجالية وتحسين جودة الخدمات.
وقد أبرز خطاب العرش معطيات إحصائية هامة من نتائج الإحصاء العام لسنة 2024، التي سجلت انخفاض نسب الفقر متعدد الأبعاد، مما يتيح أرضية صلبة لتصميم سياسات عمومية أكثر إنصافاً وفاعلية.
أوراش اقتصادية كبرى: من الموانئ إلى السياحة
من بين المؤشرات الدالة على الدينامية الاقتصادية التي يشهدها المغرب:
ميناء طنجة المتوسط: يواصل ترسيخ مكانته ضمن أكبر موانئ الحاويات في العالم، حيث يُعتبر منصة محورية للتجارة الدولية وسلاسل التوريد.
ميناء الداخلة الأطلسي: بلغت نسبة تقدم الأشغال به حوالي 39%، مع استهداف تسليمه سنة 2028، ليشكل بوابة استراتيجية نحو إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
القطاع السياحي: بفضل خارطة الطريق 2023-2026، التي رُصدت لها ميزانية تناهز 6.1 مليار درهم، تمكن المغرب من تحقيق أرقام قياسية في عدد الوافدين والإيرادات. والهدف المسطر يتمثل في استقبال 17.5 مليون سائح بحلول 2026.
هذه الأوراش الكبرى تعكس رؤية شمولية تجعل من المغرب قطباً صناعياً، لوجستياً، وسياحياً في المنطقة، مع المحافظة على جاذبية الاستثمار بفضل الاستقرار السياسي والمؤسساتي.
الأبعاد الرمزية والسياسية للذكرى
الاحتفال بثورة الملك والشعب يحمل رسائل متعددة المستويات:
1. على الصعيد الداخلي: الربط بين التلاحم التاريخي للعرش والشعب وبين السياسات الاجتماعية الراهنة، التي تستهدف العدالة المجالية، التشغيل، التعليم، الصحة، وتدبير الموارد المائية.
2. على الصعيد الإقليمي: التأكيد على خيار الحوار والانفتاح، خاصة مع الجزائر، بما يرسخ قناعة أن أمن المنطقة وازدهارها يمران عبر التعاون لا التنافر.
3. على الصعيد الدولي: تثمين الاعترافات المتزايدة بمغربية الصحراء ودعم مبادرة الحكم الذاتي، مما يعزز الموقع التفاوضي والسياسي للمغرب.
4. على الصعيد الاقتصادي: التوجه نحو التصنيع الموجه للتصدير، اعتماد الطاقات المتجددة، والاستفادة من الموقع الجغرافي للمملكة كبوابة بين أوروبا وإفريقيا.
رسائل موجهة لمختلف الفاعلين
للمواطن: أن الذكرى ليست فقط مناسبة للاحتفال، بل هي عهد متجدد للمسؤولية والمشاركة في الحياة العامة.
للمؤسسات: ضرورة الإسراع في تنزيل الجهوية المتقدمة وضمان الشفافية في تقييم الأثر الاجتماعي للسياسات.
للمستثمرين: المغرب يقدم فرصاً واعدة في مجالات الصناعة، الخدمات، والطاقات النظيفة، مع ضمان الاستقرار والأمن القانوني.
للسياح: المملكة تفتح أبوابها بتراث متنوع وتجارب سياحية غنية، من جبال الأطلس إلى رمال الصحراء.
الذكرى الـ72 لثورة الملك والشعب ليست مجرد عودة إلى صفحات التاريخ، بل هي محطة لتجديد الالتزام بمسار التنمية والديمقراطية والوحدة الترابية. بين نضال الأمس لبناء الاستقلال، وأوراش اليوم لتحقيق العدالة المجالية والرقمنة، يظل جوهر الرسالة واحداً: لا تنازل عن الوحدة الوطنية، ولا تراجع عن بناء دولة المؤسسات.